فصل: حوادث سنة إحدى وسبعين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

وغزا الصائفة هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم قبل ذلك جاؤوا مع بطريقهم إلى الحدث، فهرب الوالي وأهل السوق، فدخلها الروم، فقصدهم معيوف فبلغ مدينة أشنة، فغمن وسبى.
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن منصور؛ وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري؛ وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم؛ وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة؛ وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني؛ وعلى عمان الحسن بن نسيم الحواري؛ وعلى الكوفة موسى بن عيسى؛ وعلى البصرة محمد بن سليمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي؛ وعلى قومس زياد بن حسان؛ وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي؛ وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي؛ وعلى الموصل هاشم ين سعيد بن خالد، فأساء السيرة في أهلهأن فعزله الهادي وولاها عبد الملك بن صالح الهاشمي.
وفيها خرج الجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي، وعلى خراجها منصور ين زياد، فسير جيشاً إلى الخارجي، فالتقوا بباعربايأن من بلد الموصل، فهزمهم الخارجي وغمن أموالهم، وقوي أمره، في رجلان، وصحباه، ثم اغتالاه فقتلاه.
وفيها مات مطيع بن إياس الليثي الكناني الشاعر؛ وأبوعبيد الله معاوية بن عبد الله بن بشار الأشعري، مولاهم، وكان وزير المهدي، وقيل مات سنة سبعين ومائة.
وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ، صاحب القراءة، أحد القراء السبعة؛ والربيع بن يونس، صاحب المنصور، مولاه.

.حوادث سنة سبعين ومائة:

.ذكر ما جرى للهادي في خلع الرشيد:

كان الهادي قد جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر، وكان السبب في ذلك أن الهادي لما عزم على خلعه ذكر لقواده، فأجابه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وعبد الله بن مالك، وعلي بن عيسى وغيرهم، فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر، ووضعوا الشيعة، فتكلموا في ذلك، وتنقصوا بالرشيد في مجلس الجماعة، وقالوا لا نرضى به، وصعب أمرهم، وأمر الهادي أن لا يسار بين يدي هارون بالحربة، فاجتنبه الناس، وتركوا السلام عليه.
وكان يحيى بن خالد بن برمك يتولى أمور الرشيد بأمر الهادي، فقيل للهادي: ليس عليك من أخيك خلاف إمنا يحيى يفسده؛ فبعث إليه، وتهدده، ورماه بالكفر، ثم إنه استدعاه ليلة، فخاف، وأوصى، وتحنط، وحضر عنده، فقال له: يا يحيى! مالي وما لك؟ قال: ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قال: لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي؟ قال: من أنا حتى أدخل بينكما؟ إمنا صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره، فانتهيت إلى أمرك. فسكن غضبه.
وقد كان هارون طاب نفساً بالخلع، فمنعه يحيى عنه. فلما أحضره الهادي، وقال له في ذلك، قال يحيى: يا أمير المؤمنين! إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوكد للبيعة. قال: صدقت، وسكت عنه.
فعاد أولئك الذين بايعوه من القواد والشيعة، فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع، فاحضر يحيى وحبسه، فكتب إليه: إن عندي نصيحة؛ فأحضره، فقال له: يا أمير المؤمنين! أرأيت إن كان الأمر الذي لا يبلغه، ونسأل الله أن يقدمنا قبله، يعني موت الهادي، أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهولم يبلغ الحنث، أويرضون به لصلاتهم، وحجهم، وغزوهم؟ قال: ما أظن ذلك! قال: يا أمير المؤمنين! أفنأمن أن يسموإليها أكابر أهلك، مثل فلان، ويطمع فيها غرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ والله لوأن هذا الأمر لم يعقده المهدي لأخيك، لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي له! ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ جعفر أتيته بالرشيد، فخلع نفسه له وبايعه. فقبل قوله، وقال: نبهتني على أمر لم أنتبه له. وأطلقه.
ثم إن أولئك القواد عاودوا القول فيه، فأرسل الهادي إلى الرشيد في ذلك، وضيق عليه؛ فقال له يحيى: استأذنه في الصيد، فإذا خرجت فأبعد، ودافع الأيام! ففعل ذلك وأذن له، فمضى إلى قصر بني مقاتل، فأقام أربعين يومأن فأنكر الهادي أمره، وخافه، فكتب إليه بالعود، فتعلل عليه، فأظهر الهادي شتمه، وبسط مواليه وقواده فيه ألسنتهم؛ فلما طال الأمر عاد الرشيد، وقد كان الهادي في أول خلافته جلس، وعنده نفر من قواده، وعنده الرشيد، وهوينظر إليه، ثم قال له: يا هارون! كأني بك وأنت تحدث نفسك بتمام الرؤيأن ودون ذلك خرط القتاد.
فقال له هارون: يا موسى إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت قتلت وإن أنصفت سلمت، وإني لأرجوأن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأجعل أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما تحب من حق الإمام المهدي.
فقال له الهادي: ذلك الظن بأنك يا أبا جعفر، ادن مني! فدنا منه، وقبل يده، ثم أرد العود إلى مكانه، فقال: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل، اعني المنصور، لا جلست إلا معي؛ فأجلسه في صدر مجلسه، ثم أمر أن يحمل إليه ألف ألف دينار، وأن يعمل إليه نصف الخراج، وقال لإبراهيم الحراني: اعرض عليه ما في الخزائن من مالنأن وما أخذ من أهل بيت اللعنة، يعني بني أمية، فيأخذ منه ما أراد، فليأخذ منه ما أراد. ففعل ذلك. فقام عنه.
وسئل الرشيد عن الرؤيأن فقال: قال المهدي: رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى وإلى هارون قضيبأن فأورق من قضيب موسى أعلاه، وأوراق قضيب هارون من أوله إلى آخره، فعبرت لهما أنهما يملكان معأن فأما موسى فقتل أيامه، وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام، ودهره أحسن دهر؛ فكان كذلك.
وذكر أن الهادي خرج إلى حديثه الموصل، فمرض بهأن واشتد مرضه، وانصرف، وكتب إلى جميع عماله شرقاً وغرباً بالقدوم إليه، فلما ثقل أجمع القواد الذين كانوا بايعوا جعفرأن وتآمروا في قتل يحيى بن خالد، وقالوا: إن صار الأمر إليه قتلنأن وعزموا على ذلك، ثم قالوا: لعل الهادي يفيق، فما عذرنا عنده؟ فأمسكوأن ولما اشتد مرض الهادي أرسلت الخيزران إلى يحيى تأمره بالاستعداد، فأحضر يحيى كتابأن فكتبوا الكتب من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنه قد ولاهم ما كان ويكون، فلما مات الهادي سيرت الكتب.
وقيل إن يحيى كان محبوساً. وكان الهادي قد عزم على قتله تلك الليلة، وإن هرثمة بن أعين هوالذي أقعد الرشيد، على ما سنذكره.
ولما مات الهادي قالت الخيزران: قد كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة، فمات الهادي، وولي الرشيد، وولد المأمون، وكانت الخيزران قد أخذت العلم من الأوزاعي؛ وكان موت الهادي بعيساباذ.

.ذكر وفاة الهادي:

وفي هذه السنة توفي الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ربيع الأول.
واختلف في سبب وفاته، فقيل كان سببها قرحة كانت في جوفه؛ وقيل مرض بحديثه الموصل، وعاد مريضاً فتوفي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقيل إن وفاته كانت من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن بقتله، وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه، وتسلك به مسلك المهدي، حتى مضى أربعة أشهر، فانثال الناس إلى بابهأن وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابهأن فكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلأن فقالت: لا بد من إجابتي إليه، فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وقال: ويلي على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك. قالت: إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً؛ قال: لا أبالي والله، وغضبت فقامت مغضبة، فقال: مكانك والله، وإلا أنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك، أومصحف يذكرك، أوبيت يصونك؟ إياك! وإياك! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي. فانصرفت وهي لا تعقل، فلم تنطق عنده بعدها.
ثم إنه قال لأصحابه: أيما خير أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير. قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقال: فعلت أم فلان، وصنعت؟
قالوا: لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمي، فتتحدثون بحديثها؟ فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها.
ثم بعث بأرز، وقال: قد استطبتهأن فكلي منها. فقيل لها: أمسكي حتى تنظري! فجاؤوا بكلب، فأطعموه، فسقط لحمه لوقته، فأرسل إليها: كيف رأيت الأرز؟ قالت: طيباً. قال: ما أكلت منهأن ولوأكلت منها لاسترحت منك، متى أفلح خليفة له أم! وقيل: كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد، فوضعت جواريها عليه لما مرض، فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه، فمات، فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته.

.ذكر وفاته ومبلغ سنه وصفته وأولاده:

كانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول؛ وقيل لست عشرة منه؛ وقيل كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر؛ وقيل كان أربعة عشر شهراً؛ وكان عمره ستاً وعشرين سنة، وقيل ثلاثاً وعشرين سنة، وصلى عليه الرشيد.
وكانت كنيته أبا محمد، وأمه الخيزران، أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.
وكان طويلأن جسيماً أبيض، مشرباً حمرة، وكانت بشفته العليا نقص وتقلص.
وكان المهدي قد وكل به خادماً يقول له: موسى أطبق، فيضم شفته، فلقب: موسى أطبق.
وكان له من الأولاد تسعة: سبعة ذكور، وابنتان، فمن الذكور جعفر، وهوالذي كان يريد البيعة له، والعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى بن موسى الأعمى، كلهم لأمهات أولاد، والابنتان أم عيسى كانت عند المأمون، وأم العباس وكانت تلقب نونة.

.ذكر بعض سيرته:

تأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام، فقال له الحراني: يا أمير المؤمنين! إن العامة لا تحتمل هذا. فقال لعلي بن صالح: إيذن للناس علي بالجفلى لا بالنقري، فخرج من عنده ولم يفهم قوله، ولم يجسر على مراجعته، فأحضر أعرابيأن فسأله عن ذلك، فقال: الجفلى أن تأذن لعامة الناس، فأذن لهم، فدخل الناس عن آخرهم، ونظر في أمورهم إلى الليل، فلما تقوض المجلس له علي بن صالح ما جرى له، وسأله مجازاه الأعرابي، فأمر له بمائة ألف درهم؛ فقال علي: يا أمير المؤمنين! إنه أعرابي، ويغنيه عشرة آلاف. فقال: يا علي أجود أنأن وتبخل أنت! وقيل: خرج يوماً إلى عيادة أمه الخيزران، وكانت مريضة، فقال له عمر بن ربيع: يا أمير المؤمنين! ألا أدلك على ما هوأنفع لك من هذا؟ تنظر في المظالم. فرجع إلى دار المظالم، وأذن للناس، وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها.
وقيل: كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي؛ قال: فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه، وحبسهم صيانة له عنهم، فكنت أفعل، وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم، ولا أفعل، فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف، فاستحضرني يومأن فدخلت إليه متحنطاً متكفناً وهوعلى كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله عليك! أتذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه، فلم تجبني، وفي فلا وفلان، فعدد ندماءه؛ فلم تلتفت إلى قولي. قلت: نعم! أفتأذن في ذكر الحجة؟ قال: نعم. قلت: نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي وأمرتني بما أمر فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك، فاتبعت أمره وخالفت أمرك؟ قال: لا! قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك.
فاستدناني، فقبلت يده، ثم أمر لي بالخلع، وقال: وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشداً! فصرت إلى منزلي مفكراً في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه، ووزراؤه، وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه.
قال: فإني لجالس، وعندي بنية لي، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ، وأسخنه، وأطعم الصبية، وآكل، وإذا بوقع الحوافر، فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعهأن ولكثرة الضوضاء، فقلت: هذا ما كنت أخافه.
وإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوأن وإذا الهادي في وسطهم على دابته، فلما رأيته وثبت، فقبلت يده ورجله، وحافر دابته، فقال لي: يا أبا عبد الله! إني فكرت في أمرك، فقلت يسبق إلى وهمك أنني، إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا حسن رأيي فيك، فيقلقك ذلك، فصرت إلى منزلك لأونسك، وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال، فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك، فيزول خوفك.
فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ، فأكل، ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي، فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرهأن فقال: هذه لك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري؛ ثم انصرف.
قيل: وكان يعقوب بن داود يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى بن ماهان، فأنه دخل إلي الحبس، وقال لي: أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط.
فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مساً إلى أن عد مائة سوط، ثم خرج، فقال:، فقال له الهادي: ما صنعت به؟ قال: صنعت الذي أمرتني به، وقد مات الرجل. فقال الهادي: إنا لله وإنا إليه راجعون، فضحتني، والله، عند الناس، يقولون: قتل يعقوب بن داود؛ فلما رأى شدة جزعه قال: هو، والله، حي يا أمير المؤمنين. قال: الحمد لله على ذلك.
وقيل: كان إبراهيم بن سلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة، فمات له ولد، فأتاه الهادي يعزيه، فقال له: يا إبراهيم! سرك وهو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة. فقال: يا أمير المؤمنين! ما بقي مني جزء فيه حزن، إلا وقد امتلأ عزاء فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم.
قيل: كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري قد تزوج رقية بنت عمروالعثمانية، وكانت قبله تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي، فأرسل إليه، وحمل إليه، وقال له: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين؟ قال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي، صلى الله عليه وسلم، فأما غيرهن فلأن ولا كرامة، فشجه بمحضرة كانت في يده، وجلده خمسمائة سوط، وأراده أن يطلقهأن فلم يفعل، وكان قد غشي عليه من الضرب، وكان في يده خاتم نفيس، فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه، فقبض على يده فوقهأن فصاح؛ وأتي الهادي، فأراه يده، فغضب، وقال: تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت؟ قال: سله، واستحلفه أن يصدقك؛ ففعل. فأخبره الخادم وصدقه، فقال: أحسن الله، أشهد أنه ابن عمي، ولولم يفعل ذلك لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه.
قيل: وكان المهدي قد قال للهادي يومأن وقد قدم إليه زنديق، فقتله، وأمر بصلبه: يا بني، إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني، فإنها تدعوالناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيأن والعمل للآخرة، ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم، ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجأن ثم تخرجها إلى عبادة اثنين: أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب وجرد السيف فيهأن وتقرب بأمرها إلى الله، فإني رأيت جدي العباس، رضي الله عنه، في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين.
فلما ولي الهادي قال: لأقتلن هذه الفرقة. وأمر أن يهيأ له ألف جذع. فمات بعد هذا القول بشهرين.
قيل: وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبأن وأعذبهم ألفاظأن وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله، وكان يدعوله بما يتكئ عليه في مجلسه، وما كان يفعل ذلك بغيره، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلأن ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك؛ وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة، فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضهأن فقال الحاجب: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع، وإلى الديوان، فعاد إلى ابن دأب فأخبره، فقال: اتركها.
فبيمنا الهادي في مستشرف له ببغداد رأى دأب وليس معه إلا غلام واحد، فقال للحراني: ألا ترى ابن دأب ما غير حاله، وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه؟ فقال: إن أمرتني عرضت له بالحال. فقال: لأن هوأعلم بحاله. ودخل ابن دأب، وأخذ في حديثه، فعرض له الهادي بشيء وقال: أرى ثوبك غسيلأن وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد. فقال: باعي قصير! فقال: وكيف، وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك؟ فقال: ما وصل إلي شيء. فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال: عجل الساعة ثلاثين ألف دينار؛ فأحضرت وحملت بين يديه.

.ذكر خلافة الرشيد بن المهدي:

وفي هذه السنة بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي، وكان عمره، حين ولي، اثنتين وعشرين سنة، وأمه الخيزران أم ولد، يمانية، جرشية؛ وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة؛ وقيل: ولد مستهل محرم سنة تسع وأربعين. وكان مولد الفضل بن يحيى البرمكي قبله بسبعة أيام، وأرضعت أم ابن يحيى الرشيد، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
ولما مات الهادي كان يحيى بن خالد البرمكي محبوسأن في قول بعضهم، وكان الهادي عازماً على قتله، فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، فأرسل الرشيد إلى يحيى، فأخرجه من الحبس، واستوزره، وأمر بإنشاء الكتب إلى الأطراف بجلوسه للخلافة وموت الهادي.
وقيل: لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد، وهونائم في فراشه، فقال له: قم يا أمير المؤمنين! فقال: كم تروعني إعجاباً منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا؟ فأعلمه بموته، وأعطاه خاتمه، فبيمنا هويكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود، فسماه عبد الله، وهوالمأمون؛ ولبس ثيابه وخرج، فصلى على الهادي بعيساباذ، وقتل أبا عصمة وسار إلى بغداد.
وكان سبب قتل أبي عصمة أن الرشيد كان سائراً هو وجعفر بن الهادي، فبلغا قنطرة من قناطر عيساباذ، فقال له أبوعصمة: مكانك حتى يجوز ولي العهد! فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير! ووقف حتى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتله.
ولما وصل الرشيد إلى بغداد، وبلغ الجسر، دعا الغواصين، وقال: كان المهدي قد وهب لي خاتماً شراؤه مائة ألف دينار، يسمى الجبل، فأتاني رسول الهادي يطلب الخاتم وأنا هاهنأن فألقيته في الماء؛ فغاصوا عليه وأخرجوه، فسر به.
ولما مات الهادي هجم خزيمة بن حازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه، وقال له: لتخلعنها أولأضربن عنقك؛ فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة، وأظهر جعفراً للناس فأشهدهم بالخلع، وأحل الناس من بيعتهم، فحظي بها خزيمة.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ولد الأمين، واسمه محمد، في شوال، فكان المأمون أكبر منه. وفيها استوزر الرشيد يحيى بن خالد، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم فيها بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه. فقال إبراهيم الموصلي في ذلك:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ** فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندي ** فهارون واليها ويحيى وزيرها

وكان يحيى يصدر عن أمر الخيزران أم الرشيد.
وفيها توفي يزيد بن حاتم المهلبي، والي إفريقية، واستخلف عليها ابنه داود، وانتقضت جبال باجة، وخرج فيها الإباضية، فسير إليهم داود جيشأن فظفر بهم الإباضية، وهزمزهم، فجهز إليهم جيشاً آخر، فهزمت الإباضية، فتبعهم الجيش، فقتلوا منهم، فأكثروأن وبقي داود أميراً إلى أن استعمل الرشيد عمهم روح بن حاتم المهلبي أميراً على إفريقية؛ وكانت إمارة داود تسعة أشهر.
وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة، على ساكنها السلام، واستعمل عليها إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ظهر من كان مستخفيأن منهم طباطبا العلوي، وهوإبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسين بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروأن منهم: يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحدأن وسميت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس الرشيد، وقسم بالحرمين عطاء كثيراً؛ وقيل إنه غزا الصائفة بنفسه، وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله البكائي.
وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم؛ وعلى الكوفة موسى بن عيسى؛ وعلى البصرة والبحرين واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي؛ وكان على خراسان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى الموصل عبد الملك.
وفيها أوقع عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ببرابر نفزة، فأذلهم وقتل فيهم.
وفيها أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة، وكان موضعه كنيسة، وأخرج عليه مائة ألف دينار.

.حوادث سنة إحدى وسبعين ومائة:

.ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي:

وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهوأصح، وكان مولده بأرض دمشق، وفيها بالعلياء من ناحية تدمر، سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان موته بقرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان عهد إلى ابنه هشام، وكان هشام بمدينة ماردة والياً عليهأن وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن، وهوالأكبر، بطليطلة والياً عليهأن فلم يحضرا موت أبيهمأن وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي، وأخذ البيعة لأخيه هشام، وكتب إليه بنعي أبيه وبالإمارة، فسار إلى قرطبة.
وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثاً وثلاثين سنة واشهرأن وكانت كنيته أبا المطرف، وقيل: أبا سليمان، وقيل: أبا زيد، وكان له من الولد: أحد عشر ذكرأن وتسع بنات، وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية.
وكان أصهب، خفيف العارضين، طويل القامة، نحيف الجسم، أعور، له ضفيرتان، وكان فصيحاً لسنأن شاعرأن حليمأن عالمأن حازمأن سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ولا ينفرد في الأمور برأيه، شجاعاً مقداماً بعيد الغور، شديد الحذر، سخيأن جوادأن يكثر لبس البياض، وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته، وضبط المملكة.
وبنى الرصافة بقرطبة تشبهاً بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام، ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة، فقال:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ** تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت: شبيهي في التغرب والنوى ** وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ** فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ** يسح ويستمري السماكين بالوبل

وقصده بنوأمية من المشرق، فمن المشهورين: عبد الملك بن عمر بن مروان، وهوقعدد بني أمية، وهوالذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس، على ما تقدم، وكان معه أحد عشر ولداً له.